د. عبير علي ناعسه
في لحظةٍ ما، قد لا تكون مدوّنة في الروزنامة، يفتح الإنسان كتاباً، لا ليقرأه فقط، بل ليُقرأ فيه. تتسلل الكلمات إلى داخله، تضيء عتمةً، تفتح نافذة، أو تهمس له بما لم يجرؤ على قوله. هكذا تبدأ الحكاية. وهكذا وُلد كتاب “كتب غيّرت حياتي“، لا بوصفه فهرساً معرفياً، بل بوصفه أرشيفاً حياً لتجارب إنسانية، جعلت من القراءة فعلاً تحويلياً، ومن الكتاب رفيقاً لا يُنسى.
تتكاثر العناوين وتتشابه فيه الأصوات في جغرافيا القراءة، يبرز كتب غيّرت حياتي على هيئة كتاب بمثابة صرخة هادئة في وجه التكرار، وكدعوة تأملية لإعادة تعريف القراءة لا كفعل معرفي فقط، بل كتحوّل وجودي يعيد تشكيل الذات.
إنه ليس مجرد قائمة كتب مؤثرة، بل دفتر رحلات داخلية، يلتقط لحظات الانكسار والانبهار، ويحوّلها إلى سرد حيّ ينبض بالأسئلة والدهشة. مرآة جماعية، كتبها فريق دار سياق من زوايا متعددة، ليمنح القارئ فرصة نادرة لرؤية نفسه في مرايا الكتب، لا ليقلّدها، بل ليعيد اكتشاف ذاته من خلالها.
حداثة البناء وأهمية المشروع:
يتميّز الكتاب بحداثة فكرية وبنائية تتجلى في تعدد الأصوات، وتنوع الحقول المعرفية، وغياب الوصاية النقدية. فكل فصل يُكتب بلغة تأملية، لا تُملِي على القارئ ما يجب أن يفهمه، بل تفتح له أبواباً للتفكير الذاتي.
لا تكمن أهمية الكتاب في محتواه فقط، بل في منهجيته: إنه لا يقدّم الكتب كأصنام معرفية، بل كرفاق رحلة، لكل منها لحظة مناسبة، وسؤال خاص، وشرخ في السكون.
سياق الكتب المختارة؛ خريطة نفسية للتحوّل:
لم تكن الكتب التي اختارها هذا العمل عشوائية، بل هي محطات في رحلة نضج إنساني ومعرفي، تُشبه إلى حد بعيد مراحل التكوين الداخلي:
- الروايات الكبرى مثل الحرب والسلم ومئة عام من العزلة تمثل لحظات الانبهار الأول بالاتساع السردي، حين يكتشف القارئ أن الحكاية يمكن أن تكون كوناٍ موازياً.
- الروايات الوجودية مثل الطاعون والمسخ و1984 تأتي في مرحلة التمرد الداخلي، حين يبدأ القارئ في مساءلة السلطة، والهوية، والحرية.
- كتب التنمية الذاتية مثل قوة الآن وأيقظ العملاق لا تُقدَّم كحلول سريعة، بل كأدوات للنجاة في لحظات الانكسار.
- السير الذاتية مثل أنا مالا وستيف جوبز تُظهر أن التغيير ليس نظرياً، بل ممكناً، وأن التجربة الشخصية قد تكون أقوى من أي تنظير فلسفي.
- الكتب الفلسفية والعلمية مثل تأملات ماركوس أوريليوس وتاريخ موجز للزمن تمثل لحظات التأمل العميق، حين يبدأ القارئ في فهم موقعه في الكون.
- الرواية العربية المعاصرة مثل ساق البامبو والديوان الإسبرطي أو تمثل العودة إلى الذات الثقافية، إلى الأسئلة المحلية، إلى الهوية التي لا تُعرّف فقط من خلال الآخر، بل من خلال التجربة الخاصة عبر عواصف غرفة الكاتب.
يرسم هذا التنوع خريطة نفسية ومعرفية، تُظهر أن الكتب التي تغيّرنا ليست تلك التي تُعجبنا فقط، بل تلك التي تُربكنا، تُحرّضنا، وتُجبرنا على إعادة النظر في أنفسنا.
أما عن بنية الكتاب؛ دفتر رحلات معرفية:
تم بناء الكتاب على شكل فصول موضوعية، كل فصل يضم مجموعة كتب تحت عنوان جامع. ويتكوّن كل فصل من:
- مدخل تأملي يهيئ القارئ نفسياً.
- عرض سردي للكتب، يتضمن اقتباسات وتحليلات.
- سؤال تفاعلي في نهاية كل عرض.
- خاتمة تلخص تجربة القراءة أو تفتح باباً جديداً للتأمل.
تجعل هذه البنية الكتاب أقرب إلى “دفتر رحلات معرفية” منه إلى دليل أكاديمي، حيث تُصبح القراءة تجربة شخصية لا تُختزل في تقييم أو تصنيف.
وفي الإبحار في سلاسة السرد وتشويق اللغة
للكتاب لغة شاعرية تأملية، بعيدة عن الجفاف الأكاديمي. هناك توازن بين العمق والوضوح، وبين التحليل والدفء الإنساني. مغلفة بعناصر التشويق متمثلة ب:
- الأسئلة المفتوحة التي تجعل القارئ شريكاً لا متلقياً.
- الاقتباسات المختارة التي تلخص روح كل كتاب.
- التنقل بين الحقول المعرفية مما يمنع الرتابة ويجدد الدهشة.
كل فقرة تُكتب وكأنها رسالة شخصية، وكل كتاب يُعرض وكأنه اعتراف داخلي، مما يمنح النص طابعاً حميمياً نادرا.
هل في إعادة القراءة: قياس للمسافة بين الذات والوعي
لا يحتفي الكتاب بالقراءة الأولى فقط، بل يُعيد الاعتبار لفعل إعادة القراءة، باعتباره قياساً للمسافة بيننا وبين ذواتنا السابقة. كل عودة إلى كتاب قديم هي اكتشاف جديد، لأننا نحن من تغيّرنا. وهنا تكمن قوة الكتاب: في كونه لا يقدّم الكتب كأجوبة، بل كأسئلة مفتوحة، تُعاد قراءتها كلما تغيّرنا.
أي كتاب سيغيّرك لاحقاً؟
في نهاية هذه الرحلة، لا يعود السؤال: “ما الكتب التي غيّرت حياتك؟” بل يصبح:
“أي كتاب لم تقرأه بعد قد يغيّر حياتك القادمة؟”
القراءة ليست وجهة، بل رحلة مستمرة. فهل ستسمح للكتاب القادم أن يغيّرك؟ وأي كتاب سيكون مرآتك الجديدة؟
لا تعليق