د. عبير علي ناعسة

في زمنٍ تتشابه فيه الأصوات وتخفت فيه الحقيقة، يخرج الكاتب رواد العوام من بين ضجيج الخوف ليقدّم عملاً أدبياً ساخراً لا يشبه أحداً، عنوانه “شيطان أخرس”، صادر عن دار دريم بوك للنشر والتوزيع. لكنه ليس مجرد مجموعة قصصية قصيرة، بل هو مرآة مكسورة تعكس وجوهنا المتعبة، وصرخة مكتومة تتخذ هيئة ضحكة، ضحكة لا تُضحك بل توقظ.

بين الكلمة والريشة: تحالف فني ضد الزيف

يشترك في هذا العمل الفنان ممدوح حمادة، الذي لا يزيّن النص برسوماته، بل يفضحه. بريشة كاريكاتيرية ذكية، يحوّل الكلمات إلى مشاهد بصرية تفضح العبث والازدواجية، وتمنح النص جناحاً بصرياً يوازيه في الجرأة والرسالة. هنا، لا تشرح الصورة النص، بل تحاوره، وتكمله، وتصرخ معه.

طزستان: وطنٌ خيالي يسكن الواقع

تدور القصص في إمبراطورية متخيّلة تُدعى “طزستان”، بلد لا وجود لها على الخريطة، لكنها تعيش في تفاصيلنا اليومية. بلادٌ يحكمها الخوف، وتزدهر فيها الشعارات، وتُكمّم فيها الأفواه. في مقدمة الكتاب، يسخر العوام: “جميع الشخصيات لا تمت بصلة لأشخاصٍ حقيقيين… لأن الشخصيات أصلها أسوأ منها بكثير.” بهذا التصريح، يفتح باب الخيال ليقول ما يخاف الواقعي أن يبوح به، ويحوّل السخرية إلى عدسة مكبّرة تفضح المأساة اليومية.

الوعي الساخر: حين يصبح الضحك سلاحاً

العنوان “شيطان أخرس” ليس مجرد استعارة، بل مفارقة فلسفية حادة. يستلهم الكاتب المثل الشعبي “الساكت عن الحق شيطان أخرس” ليطرح سؤالاً وجودياً: هل الصمت حكمة أم جريمة؟ في قصة “شيطان غير أخرس”، يتحوّل الهتاف في ملعب كرة قدم إلى جريمة وطنية، ويُعتقل الفرح بتهمة الإساءة. بهذا التصوير، يكشف العوام كيف يتحوّل الخوف إلى نظام حياة، والطاعة إلى فضيلة، والاختلاف إلى خطر.

لغة تضحك لتوجع

يكتب رواد العوام بلغةٍ عذبة، واضحة، لكنها مشبعة بطبقات من المعنى. جمل قصيرة، لكنها تلمع كطلقات وعي. لا يزخرف، بل يضيء. يضحك القارئ أولاً، ثم يجرّه بخفة إلى مساحة من التفكير، ليكتشف أن ما يضحك عليه ليس إلا نفسه وواقعه. إنها لغة تربط بين النكتة والفكرة، بين السخرية والصدق، وتحوّل الضحك إلى سؤال فلسفي صعب.

ممدوح حمادة: خياط البسمة السوداء

لا يمكن فصل النصوص عن رسومات ممدوح حمادة، التي تشكّل جناحاً بصرياً للنص. وجوهه متعبة، مبتسمة بخوف، ومسؤولون منتفخو الشعارات. كل خطٍّ يرسمه هو نقد، وكل ظلٍّ يلمّح إلى واقعٍ يختبئ خلف العتمة. إنه حوار فني بين الكلمة والصورة، بين الكاتب الذي يسخر بالكلمة، والفنان الذي يسخر بالريشة، ليصنعا معاً لوحةً من الوعي.

السخرية كمنهج تفكير

في قصة “أنت لا تفهم التوازنات”، يتحوّل الزفاف إلى درس في السياسة العربية، حيث يُطلب من العريس مراعاة “التوازنات الوطنية” في تفاصيل الحفل. الضحك هنا يحتاج إلى ترخيص، والفرح إلى موافقة أمنية. بهذا التصوير، يكشف الكاتب كيف يتسلّل الاستبداد إلى تفاصيل الحياة اليومية، إلى الضحكة، إلى الزواج، إلى الخبز، حتى يصبح الإنسان رقمًا في منظومة الكربون.

بين الماغوط والعوام: سخرية الوعي لا العبث

ينتمي العوام إلى مدرسة محمد الماغوط، لكنه لا يقلّده. فالماغوط كان يصرخ من وجع، بينما يبتسم العوام من وعي. الضحك هنا ليس تنفيساً، بل بطولة. يمتلك الكاتب حسّ الصحفي في التفاصيل، وصدق الشاعر في التعبير، ودقّة الناقد في التحليل. إنه يطلّ على الواقع من مسافة فنية، ليحوّل الوجع إلى جمال، والفوضى إلى معنى.

القيمة الأدبية والإنسانية

“شيطان أخرس” ليس كتاباً ساخراً فحسب، بل مرآة فكرية وإنسانية لحال الإنسان العربي في زمنٍ اختلط فيه الصمت بالحكمة، والخوف بالمنطق. الكاتب لا يسخر من الآخرين، بل من ذواتنا التي تعلّمت تبرير كل شيء. يواجهنا بابتسامة، لكن خلفها سؤال وجع: إلى متى سنضحك كي لا نبكي؟

حين تصبح الكلمة فعلاً مقاوماً

يثبت في النهاية، رواد العوام ومعه ممدوح حمادة أن السخرية ليست فناً، بل وعياً. “شيطان أخرس” ليس مجرد عنوان، بل وصفٌ لعصرٍ يضحك فيه الناس ليخفوا وجعهم. بهذا العمل، يجعلنا العوام نؤمن بأن الكلمة — مهما كانت ساخرة — تظلّ فعلاً مقاومًا، وأن الضحك حين يُكتب بصدق، يمكن أن يكون سلاحاً في وجه الصمت.

عن الناشر

د. عبير ناعسة
د. عبير ناعسة

استاذة جامعية_ دكتوراه في الاقتصاد البيئي

Darsiyaqمؤلف

كن دائماً داخل السياق الممتد من البداية إلى اللانهاية.. نحن دار نشر سعودية مهتمة أن تكون أنت الجزء الأساسي من سياق الثقافة.. دار السياق ..دار نشر ترى مهنة النشر من منظور جديد.. وزاوية جديدة..

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *