محمد العباس
بنزعة صوفية علمانية ونبرة حُبّ مسيحية تتحدث الفيلسوفة الفرنسية سيمون ڤايل في كتابها (انتظار الله) عن تجربتها الروحية والفكرية الفريدة. وذلك من خلال مجموعة نصوص لا تنتظم في كتاب بالمفهوم التقليدي. بقدر ما هو حصيلة رسائل وتأملات دوّنتها خلال سنوات قصيرة ومضطربة من حياتها، قبل رحيلها المبكر. وقد نُشر الكتاب بعد وفاتها، ليصبح فيما بعد نافذة على عالمها الداخلي المليء بالقلق والبحث عن الله، وإن كانت لا تحبذ هذا التعبير، وتراه زائفًا أو على الأقل غير صادق. لأن مسألة الله -بتصورها- تفتقر في هذا العالم إلى “المعطيات الكافية”.
وأهم ما يلفت في كتابها هو ذلك التلازم البنيوي ما بين فكرها الخصب وتجربتها الوجودية. وهذا تقليد فلسفي خاص بها استلهمته من تجربة القديس فرانسيس، المعروف بقربه من الفقراء. كما كان لإيمانها الواضح بتعدد الأديان أثره في نهجها. حيث وضعت عقلها في مواجهة قضايا الشر والمعاناة، لكنها لم تتوقف عند حدود التحليل الفلسفي، بل عبرت به نحو تخوم الصمت الروحي. وعليه فإن كتاب (انتظار الله) يعبّر عن هذا التوتر الناشئ عن التفكير في امكانية العيش في عالم يفيض بالظلم والاضطراب، مع القدرة على أن يظل القلب مشرعاً للنعمة الإلهية.
ومن ذلك المنطلق تسجل ملاحظاتها على التقاطع ما بين المسيحية والرواقية. خصوصًا الرواقية اليونانية بزهدها وبراءة تصورها للوجود، مقابل ما ترفضه من تصعيد عناصر القوة التي اتسمت بها الرواقية الرومانية. وفي ذلك السياق تطرح مفهوم “الانتباه”. إذ ترى أن الانتباه الخالص، المتحرر من المصلحة والرغبة، هو شكل من أشكال الصلاة، بل هو الطريق الأعمق نحو الله. فهو ليس مجرد تركيز ذهني وحسب، بل استعداد داخلي يجعل النفس في حالة استقبال، أي في حالة “انتظار”. وهنا يتجلى معنى العنوان. على اعتبار أن “الانتظار” ليس خمولاً، بل هو يقظة روحية دائمة.
وبقدر ما تتشبع النصوص بتأملات فلسفية عميقة في الألم البشري. لا تتنازل سيمون ڤايل عن الممارسة باعتبارها المحك لصدقية أخلاقها. فقد اختبرت العمل الشاق في المصانع وعاشت على تماس مباشر مع البؤس الاجتماعي. لتؤكد أن المسيحية دين الفقراء والعبيد. فهي لم تكتب عن المعاناة والابتلاء من مطلٍ فلسفي معزول، بل من جسد مرهق بالعمل وروح مجروحة بالأمل. انطلاقًا من وعيها بأن الألم هو الممر للانفتاح على المطلق، شريطة ألا يتحول ذلك إلى انغلاق للذات. لأن الله، من وجهة نظرها، لا يُدرك بالقوة، بل عبر تفريغ الذات حتى تصير قادرة على الاستقبال.
وعلى الرغم من الفائض الروحي المسيحي في شخصيتها، وأثر الانجيل الواضح والعميق في تفكيرها، إلا أن علاقتها بالكنيسة الكاثوليكية ظلّت متوترة. لدرجة أنها تصاب بالرعب كلما طرأت عليها فكرة التعميد. وبقدر ما تتكثف حواراتها الداخلية مع المسيح، ظلت مترددة، بل رافضة للانتماء المؤسسي. حيث أرادت الحفاظ على نقاء تجربتها الروحية من كل سلطة بشرية. وهذا هو بالتحديد ما جعلها ترسم مسافة قصدية مع الجماعات لتبني شخصيتها الفريدة. حيث الاعتكاف التأملي الذي جعل شخصيتها فريدة لدرجة أنها اُعتبرت قديسة بلا كنيسة.
إنه نص يمكن قراءته على أكثر من مستوى، فهو وثيقة روحية شخصية، أو فاصل من سيرة ذاتية، أو عمل فلسفي معني بالبحث في معاني الخير والشر. وعلى المستوى الأدبي يمكن النظر إليه كأدب بوحي. فهو كتاب يجمع ما بين المحتوى الروحي، والجدل الفكري، والتعبيرات فائقة الشعرية. وبمعنى أدق هو رحلة روح قلقة غارقة في الفيض الإلهي، وذلك عبر عقل مهموم بانتزاع الشر من دواخل النفس البشرية وتوطين الجمال، إذ لا يوجد إنسان أدنى من الجمال، حسب تعبيرها. وكأن النص بكل مركباته المضمونية واللغوية والأخلاقية رحلة فكرية روحية لذات تبحث عن معنى لوجودها.
لا تعليق