فلك علي
في إحدى رواياتها الاجتماعية الرومانسية المميزة، تتناول الكاتبة بياتريس هارادن مواضيع متعددة أبرزها الألم والوحدة والعلاقات الإنسانيّة، لتحمل رواية “السفن التي تعبر ليلا” دلالةً رمزية عميقة عن اشخاص تجمعهم لقاءاتٌ عابرةٌ، أو تتقاطع طرقهم في لحظةٍ ما، ثمّ يتابع كلٌّ منهم سبيله، تاركًا وراءه أثرًا عميقًا وحنينًا مبهمًا.
تبدأ الحكاية بوصول برناردين هولم إلى بيترشوف، تلك الشابّة المثقّفةٌ، الجادّةٌ، والطموحةٌ، التي أجبرها المرض على التخلّي عن حياتها النشطة وعملها لتقيم في أحد المنتجعات الصحّيّة في بيترشوف عملًا بنصيحة أطبّائها. هناك تجتمع مع روبرت أليتسن؛ أحد المرضى المقيمين في المنتجع الصحّي، والذي لطالما أثار فضول جميع مرضى المنتجع بشخصيّته الغامضة، والمنغلقة على ذاتها، ونادرًا ما تحدّث إليهم بأسلوبه الناقد اللاذع وتهكّمه، لذلك منحوه لقب الرجل الفظ.
لم يكن لقاؤهما الأوّل مشجّعًا، لكن سرعان ما نشأت بينهما علاقةٌ قويّةٌ، تشاركا من خلالها لحظاتٍ من التأمّل، والبوح، والتعاطف غير المعلن.. لحظاتٌ اكتشفت برناردين فيها جانبًا مختلفًا من شخصيّة روبرت أليتسن.
تنامى لدى كلّ منهما إعجاب سريٌّ بالآخر، حرصا على إخفائه وراء ستار من القسوة واللامبالاة، حتّى غادرت برناردين بيترشوف -بعد ستة أشهر من وصولها- عائدة إلى لندن، ليذوق كلّ منهما مرارة الاشتياق وألم الفراق، فيقرّر روبرت أليتسن القدوم لزيارتها في لندن، عازمًا على مصارحتها بحبّه لتبادر هي أيضًا بالاعتراف بذلك، لكن في تلك اللحظة ترحل برناردين تاركة ًالرجل الفظّ وحيدًا.
تسلّط الكاتبة الضوء على معاناة الإنسان جسديًّا ونفسيًّا من: المرض، والوحدة القاتلة، وخيبات الأمل… على ذلك الوحش القاسي المعروف بالإهمال من خلال العلاقة التي جمعت برناردين بالسيد ريفولد الذي عانى بسبب إهمال زوجته وأنانيتها، ووجد في برناردين عزاء له في آخر أيّام حياته، لذلك منحها لقب الملاك الصغير القويّ الذي استطاع تخفيف آلامه ومؤانسة وحشته بالرغم من ضعفه وهشاشته.
تحدّثا هذه الرواية عن دور الألم في تغيير مجرى حياتنا، كيف تحولت حياتها في ستة أشهر من فتاةٍ قاسيةٍ إلى فتاةٍ رقيقة القلب، من شخصٍ مستنزفٍ إلى شخصٍ مانحٍ للتعاطف والحنان، لم تعد تشعر أنها أخفقت وأنّ الحياة أخذت منها كل شيء، بل ترى أنّها منحتها فرصةً أخرى لتذوق طعم السعادة والنجاح، وربّما الحبّ.
“السفن التي تعبر ليلًا” هم أولئك المرهقون الذين يلتقون بشكل عابر لفترة وجيزة ثم يبتعد كلٌّ في سبيله دون أن يعرف مصير الآخر؛ تمامًا كما تلتقي سفنٌ تشقّ عباب البحر في ليل مظلم…
رواية ثرية وشيّقة، توضّح لنا كيف تسمو المعاناة بالروح إلى مقامٍ رفيع، وكيف أن الحياة التي نحياها من أجل الآخرين هي التضحية العظيمة التي تسلب المرء كلّ ما يشعره بالرضا.
تدور أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر بين مدينة بيترشوف في سويسرا -التي تشتهر بمنتجعاتها الصحيّة- ومدينة لندن.
لا تعليق